جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية.       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك. لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع.
شرح القواعد الأربعة
24577 مشاهدة
القاعدة الثانية: من الشرك طلب الشفاعة والزلفى إلى الله بما لم يشرعه

القاعدة الثانية: أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجَّهنا إليهم إلا لِطلب القربة والشفاعة.
فدليل القربة قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ .
ودليل الشفاعة قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفيِّة، وشفاعة مثبتة.
فالشفاعة المنفية: ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.
والدليل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ والشفاعة المثبتة: هي التي تطلب من الله، والشافع مكرم بالشفاعة، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله بعد الإذن، كما قال تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ


هذه القاعدة مكملة للقاعدة الأولى، يعني: أن المشركين يعترفون بأن الله تعالى هو الرب الخالق المالك المتصرف، ومع ذلك يعبدون هذه الأوثان، وهذه المعبودات: من أموات وجمادات وأشجار وأحجار، لماذا يعبدونها؟ يجعلونها وسائل ووسائط تقربهم إلى الله، وتشفع لهم، وهم يعترفون أن الله تعالى هو المتصرف، ولكن يقولون: لا بد أن نتخذ شفعاء يشفعون لنا عند الله، وينفعوننا، فلذلك جعلوها وسائط.
ومن جعل بينه وبين الله تعالى وسائط -يدعوهم ويزعمون أنهم ينفعونهم عند الله- فقد أشرك، وقد أشبه المشركين. وهذا ما يعتقده أيضا القبوريون، فإن عذرهم: الشفاعة، أو الوساطة، أو مثل ذلك، فالمشركون الأولون يقولون: نريد منهم القربى، ونريد منهم الشفاعة، هذا قصدهم.
ذكروا في دليل القربى في هذه الآية في سورة الزمر قول الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ أي يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وهذه مقالة القبوريين، يعني يقولون: إننا نريد أن يقربونا إلى الله، ولكن المشركين الأولين يعرفون اللغة، ويعرفون مدلولاتها، فيعرفون أن فعلهم هذا ليس إلا تعبدًا وتذللًا، فلذلك قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فسموا فعلهم وتذللهم عبادة، وأما القبوريون فإنهم تحاشوا أن يسموه عبادة؛ لأنهم يقرءون قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فلذلك غيروا الاسم، وسموه توسلا وتوسطا واستشفاعا وما أشبه ذلك.
والأسماء لا تغير الحقائق؛ فإن العبرة بما في نفس الأمر، العبرة بالأفعال. عرفنا أن المشركين يعبدون آلهتهم، ويسمونها آلهة، لأن قلوبهم تألههم، والذين وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يعني: سموها آلهة، وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا لأنهم يألهونها.
وسموهم أولياء، يعني أنهم يتولونهم، اتخذوا من دون الله أولياء أي: يتولونهم أو ينصرونهم أو يدَّعُون أنهم لهم أولياء، ويعبدونهم، ويعترفون بأن فعلهم عبادة، ويقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى نحن بعيدون، أبعدتنا ذنوبنا، وهؤلاء مقربون، فإذا عبدناهم قربونا إلى الله، وإذا سألناهم سألوا لنا الله.
فالزلفى هي: جمع زلفة، فزلفة الدرج، يعني: يصعدون بمنزلتهم: أي درجات، إلى أن يقربونا إلى الله، ويقربونا إلى رضاه. هذه شبهتم، كذلك القبوريون.
وأما الشفاعة، فالشفاعة دليلها ما ذكر في هذه الآية في سورة يونس قول الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ يصرحون بأنهم شفعاء، يشفعون لهم عند الله. والشفيع هو: الواسطة، وسمي شفيعا لأنه إذا انضم إلى المشفوع له أصبح شفعا، يقولون: أنا واحد، أنا فرد، أنا وِتْر، أريد أن ينضم إلي هذا الولي، أو هذا النبي، وإذا انضم إلي صرنا شَفْعًا، يشفعني. الفرد، الوتر هو: الواحد، والاثنان: شفع، لقوله تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يعني: أنه إذا انضم إليَّ صيرني شفعا، فأتقوى به فيشفع لي، فيتوسط لي عند الله، أنا أدعوه وهو يدعو الله لي، فجعلوا هذا شفيعا. يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، يشفعون لنا حتى يرزقنا، وحتى يوسع علينا، وحتى ينصرنا على أعدائنا، يحصل لنا بشفاعتهم مصالح وخيرات؛ فسموهم شفعاء. وهكذا أيضا ذكر الله عن مؤمن ياسين أنه قال: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا أي: لا تنفعني شفاعتهم. فدل على أن من مقاصد المشركين الشفاعة، يدَّعُون أن هذه الأوثان التي يعبدونها تشفع لهم عند الله.